السبت، 28 مارس 2009

مجرد عسكري


(1)
اشرقت الشمس لتخترق اشعتها الساخنه النافذه الزجاجيه لغرفه احمد، لتستقر في النهايه على وجهه الطفولي بعد رحله دامت آلاف السنوات الضوئيه، فتقلق هذا الكيان الملائكي، وسرعان ما يستيقظ وكله لهفه وشوق لزيارة جده "علي" الاسبوعيه في يوم الجمعه،فقفز من على فراشه واستحم ولبس الجلباب الابيض بعد ان انهى فطوره مع اسرته، ليدق الجرس معلنا وصول جدو "علي" ليصطحب احمد الى صلاة الجمعه.وفي طريق العوده اخذ احمد يهدد جده بذلك الصوت الطفولي البريء بأنه لن يرحمه اليوم، ولن يترك الفرصه له ليغلبه،فنظر اليه جده نظره تحدي عميقه وقال له بكل حزم .... سنرى.وما ان دخل احمد الى المنزل حتى جلب ذلك الشطرنج الزجاجي وقام بترتيبه بسرعه فنظر كلا منهما الى الاخر, معلنان بدأ المنافسه , وما ان جلسا على مقعديهما حتى ابتسم احدهما للآخر بابتسامة خبيثه.وكالعاده اختار أحمد أن يلعب بالفريق الأبيض كما اعتاد دائما, وبدأ هو اللعب بتحريك عسكري للأمام خطوة واحده وبدأ الصراع, وكان كل من الجد واحمد يتنفسان بضراوة وكأنها حرب حقيقية, إلى ان جاءت اللحظة الحاسمة, فها هو وزير الجد يهدد ملك أحمد, ويتردد أحمد في اللعبة التي سيلعبها, وكلما يقرر لعبه يمسك بالقطعه التي يرغب ان يحركها وينظر الى جده طالبا العون , فيرد عليه جده بهز رأسه يمنة ويسارا معلنا رفضه لهذه الحركة, فيتركها أحمد بسرعه كبيره ليستفز ابتسامة الجد, ولأن الجد يعلم تماما انها مجرد حركات بسيطة ويكون هو المنتصر فانه كان يساعد أحمد على أن يستمر لاكثر وقت ممكن ولكن هذا الطفل الخبيث استطاع ان يراوغ بحركة لم تأت على بال جده, فاستطاع هزيمته وعلت ابتسامته في ارجاء المنزل معلنة انتصاره الأول على جده, فينظر إليه جده ويقول له لا تنسى إنني ساعدتك, فيرد أحمد بكل خبث ولا تنسى ايضا انك ساعدتني بمحض ارادتك.
(2)
يغلق ابو أحمد جميع أضواء المنزل في تمام الساعه الثانية عشر, ليعلن حلول وقت النوم, فيعم الهدوء, ويملأ ضوء القمر مختلطا باضواء الشارع أرجاء المنزل, وتبدأ عساكر الشطرنج تتسلل من علبتها وتقوم بمهمتها الدورية لتطمئن على انه لا يوجد أحد في المنزل, ثم تعود مرة أخرى لتعطي اشارة الأمان لباقي القطع , فتخرج كل قطعه متوجهه الى مكانها على لوح الشطرنج الذي لا يزيله أحمد من على طاولة الجلوس في غرفة مكتب والده, ثم يبدأ كلا من الفريقان في القاء التحية على ملكهم واعلانهم الولاء التام والصادق لفريقهم, ثم يخرج الوزير كالعاده ليشرح للقطع الأخرى الخطه التي سيتبعونها في المواجهه, ثم يخرج كلا من الوزيرين ليقابل أحدهما الآخر, فيقول الوزير الأسود بلهجته العسكرية الخشنه, ان هزيمتكم لنا في الصباح كانت الأولى من نوعها وستكون الأخيرة, لعله الحظ من ساعد الولد الصغير, فيقول له الوزير الابيض بلا مبالاه, بل انه الجد يا ابله, فيرد عليه الوزير الاسود, وتعترف كذلك ان الجد هو سبب نصركم أيها الفاشلون , فيرد الوزير الأبيض قائلا.... لا يهميصطف كلا من الفريقان, فتعلو صيحات الفريق الاسود لتعلن عن حماسه الشديد في تحطيم العدو والنصر عليه كما اعتادوا, ويعم الهدوء صفوف الفريق الابيض الذي مل الهزيمة المستمرة ومل تلك الخطة العقيمة التي لا يمل الوزير من تطبيقها, ولكن في وسط الهدوء يخرج الفيل الايمن للفريق الابيض ليخطب بابتسامة كبيره لا تفارقه منذ ان ضربه الوزير الاسود على رأسه, ليتحول من أعقل القطع إلى أكثرهم جنونا, فيقول وهو يقفز ... لا تخافوا ايها العساكر الصغار, فاننا اليوم سوف نثبت للفريق الأبيض اننا الافضل, فليحيا الفريق الاسود فليحيا الفريق الاسود, فتضحك الطابية اليمنى ويندب الوزير حظه العفش الذي جعله وزيرا على مجموعه من البلهاء.
(3)
كالعاده تبدأ المباراه ويظل الوزيران يصرخان بصوت آمر لباقي القطع, ليلتزموا بالخطة المرسومة أو للتعديل عن الخطة المسبقه في حال حدوث طارئ, ولكن هذه الأخيره لم تكن تحدث كثيرا نظرا لرتابة خطة الفريق الابيض والتي بالطبع يعلم الفريق الاسود الخطة المضاده لها, وفي خضم المعركه سقط أحد العساكر على الأرض ليحدث ضجه كبيره, فيترك الجميع المعركة ويذهبوا إلى مصدر الصوت ليجدوه قد تحول إلى مئات القطع المتناظرة من الزجاج الابيض, فيعلن الوزيران الحداد وتعود كل القطع إلى العلبه وعلى وجوهها علامات الحزن الشديد مرافقه لعلامات التعجب, فكيف سقط هذا العسكري خاصه انه لم يكن بجانبه أحد من الأعداء, ولكن الوزيران طلبا من الجميع السكوت وعدم التحدث في هذا الأمر, فكما قالا في اجتماعهما مع القطع الأخرى ان هذه الامور قد تحدث الفتنة بين قطع الفريقين , بل بين قطع الفريق الواحد , خاصة وأن لا أحد يعلم ما قد حدث نظرا لظلمة المكان وانتباه الجميع لأحداث المعركه, وانهى الوزير الأسود الخطاب قائلا, أنه لو كان هذا الأمر بفعل فاعل فإن الأيام ستظهره لنا بالتأكيد.
(4)
استيقظ أحمد في الصباح التالي لتخبره والدته بأنها وجدت أحد قطع الشطرنج الخاصة به وقد تهشمت تماما, حزن أحمد كثيرا ظنا منه انه لم يعدها مكانها في اليوم السابق, وشعر بالندم لأنه كان قد وعد جده الذي أهدى له هذا الشطرنج في عيد ميلاده بأن يحافظ عليه, فكيف يخبره بما حدث, وعندما علم الجد بما حدث, جاء ليهون على أحمد الأمر ويخبره بأن هذه الحوادث قد تحدث , ويجب ان نتعلم منها حتى لا نكررها , وأخرج من جيبه ورقه من ملونة من السلوفان ملفوفة حول شيء صغير، فأخذها أحمد ليفتحها فوجد فيها قطعه عسكري جديده مماثلة للتي كسرت, فانتشرت معالم البهجه على وجه احمد وهو يحتضن جده شاكرا له هذه الهديه وواعدا اياه بانه سياحفظ علي الشطرنج.قال احمد لجده بعد ذلك ألن تلاعبني اليوم؟! فرد عليه بأنه مشغول وعليه أن يذهب. فضحك أحمد على جده وقال : انك تخاف ان أهزمك كما فعلت المرة الفائته, فتعلو قهقهات الجد من الضحك ويسلم عليه ويقول له إن غدا لناظره قريب.
(5)
يفتح أحمد العلبة ليضيف إليها العسكري الجديد فتنظر جميع القطع بتعجب, وبعد أن يغلق احمد العلبه يقول الفيل الابيض الابله ما هذا, ولا خدش, يبدوا انه بطل خارق ولم يستطع احد لمسه من قبل, فيرد عليه اخوه الفيل الابيض الآخر بتأفف, انه عسكري جديد, بالطبع لم يلمسه أحد, وذلك لأانه لم يحارب من قبل... يظل الفيل الابله صامتا متعجبا ليقول " نعم كما قلت لم يلمسه أحد " فيتمتم الفيل الآخر بكلمات تعلن عن غضبه لما حدث لأخيه.
(6)
تنتهي فترة الحداد بمجرد قدوم العسكري الجديد , وتعود المنافسه من جديد, وقبل ان تبدأ المباراه الجديده , أخذ الوزير يلقن العسكري الجديد الخطة وأخبره بانه سيأخذ مكان سابقه ويكون موقعه أمام الطابية اليمنى, وأدرك العسكري من البداية ان دوره في الخطة هو ان يظل مكانه ولا يتحرك, واستمرت المعارك يوما بعد يوم طوال الاسبوع , والفريق الأسود دائما يفوز, وفي هذه الفترة كان العسكري الجديد يراقب الاحداث بتمعن , حتى أدرك انهم يخسرون ليس فقط لأن خطتهم ثابته , بل لأن خطة الفريق الأسود ثابته كذلك, فكان لابد له أن يفكر في خطة جديده ليعرضها عالوزير لكي يستطيعوا هزيمتهم في المرة القادمة.
(7)
عاد يوم الجمعه سريعا , وعادت المنافسه بين أحمد وجده علي, وبدأت اللعبه...كانت جميع القطع غائطه في نوم عميق خلال اللعبه , خاصة بعد السهرة الطويله في اليوم السابق وهم يتنافسون بضاروة, ولكن دون فائده , فالفائز دائما معلوم, ولكن كان العسكري الابيض الجديد متمركزا في مكانه وهو في كامل اليقظة , يراقب طريقة لعب الجد بجدية تامة , لعله يتعلم منه خطه جديده, خاصة وان الجد كان راغبا في الفوز , حتى يدرك حفيده أنه الاقوى بالتأكيد, وسرعان ما هزم الجد حفيده بحركات خاطفه من خطة سريعه لم يرها أحمد من قبل , فيقول له جده ضاحكا, هذه حتى لا تطيل لسانك على جدك مرة أخرى, تأسف أحمد له وطلب منه أن يعلمه هذه الخطه , فأجاب الجد , في المرة القادمة إن شاء الله.
(8)
كان العسكري قد حفظ خطوات الخطة عن ظهر قلب في هذه المباراه , وأراد أن يذهب إلى الوزير ليخبره ولكن في الطريق أخبرته الطابيه بأن لا يفعل ما يريد, فهي كانت تراقبه طوال المباراه وما بعد المباراه وهو يكرر الخطوات حتى لا ينساها, محذرة اياه بأن لا يقع في خطأ من سبقه, وتركته دون ان تزيد كلمة واحده رافضة ان توضح لذلك العسكري ما تقصد.لكنه لم ييأس وبدل من أن يعلن الخطة للوزير فقد بدأ يخبر العساكر الصغار الخطة , اختلفت العساكر في ردود فعلها , فكان منهم من يرفض التغيير ومنهم من يوافقه ولكنه يرفض المشاركه دون أن تصدر الاوامر العليا, ولكن اجتمعت جميع العساكر على اخبار القطع التي تحرسها عن الخطة الجديده التي اتى بها ذلك العسكري المتهور, وعندما سمع الفيل الابله بها ظل يضحك ويضحك مكررا جملة ولد شجاع مجنون .... ولد شجاع مجنون وعندما سمع كلا من الوزير والملك الخطة الجديده صمت كلا منهما دون أن ينبس بكلمه.
(9)
يقابل الوزير العسكري الجديد دون أن يلاحظهما أحد قبل المباراه متحججا بأنه يلقنه خطوة جديده لا يريد العدو ان يسمع بها, ولكنه في حقيقة الأمر كان يقنعه متظاهرا بأنه يدرك المصلحه العليا قائلا.... يا ولدي الا تعلم انني احفظ هذه الخطة عن ظهر قلب ،ولكنها بالتأكيد فاشلة حتى لو انتصر بها غيرنا, فكيف تتوقع ان يلعب الفريق بعد أن تضحي بي أنا... أنا الوزير , انا الذي احرك كل اقطع, من ينوب مكاني بعد ان أخرج من الحلبة, يقول العسكري بتردد الـ..مـ..لـ.. , فيضحك الوزير ويقول, اتقصد الملك, أين هو الملك , هل تسمع له كلمه, انه لا ينطق بكلمة ويترك كل المسئوليه علي, هل تظنه سيستطيع احتواء الموقف, أرجو ان تصمت وتعود إلى مكانك وان لا تتكلم في الموضوع مرة أخرى..... حتى تحافظ على حياتك.يدير الوزير ظهره إلى العسكري ليعود كلا منهما إلى مكانه , وفي وجه العسكري نظرة يأس , وما أن يقابل الطابيه حتى تقول له ساخرة, ألم اقل لك؟!.
(10)
تبدأ المعركه , ويبدأ الوزير باصدار الاوامر إلى القطع , حتى يجيء دور الوزير, فيخرج ليقف أمام الحصان الاسود ليستعد لقتله في الخطوة القادمة, والذي كان يتركه الوزير الاسود لان هذه التضحيه هي السر التي تجعلهم ينتصرون في كل مره, يخرج الفرق الاسود احد الفيلين مهددين بالانقضاض على الوزير،حتى يجبروا الوزير لقتل الحصان، وما ان يهم الوزير ليقتل الحصان الذي أمامه حتى يخرج صوت لم يسمعه أحد من قبل, يسكت الجميع وينظرون إلى الملك الأبيض وهو يتحدث, آمرا الوزير الابيض بأن يبقى مكانه وجاعلا الفيل العاقل يخرج إلى الامام, ولكن الوزير يقول له كيف تضحي بي, أنا الوزير, فيرد الملك ليقول, وانا الملك, ان نسيت ذلك, يجب عليك ان تطيع أوامري, كما أن هذا الفيل سيحيمك. فينظر الجميع بذهول إلى الملك, ويصمت الوزير من هول الصدمه, وما ان وصل الفيل الى هدفه حتى اعلن الوزير الاسود للفيل ان يقتل الوزير, فخرج الوزير من اللعبه.
(11)
نظر العسكري الجديد إلى الملك وتعلو وجهه ابتسامة أمل, فينظر إليه الملك ويغمز له بعينيه ويرفع له علامة الانتصار, ثم بدأ الملك في اصدار الاوامر منفذا الخطة الجديده , وعلى الرغم من اعتقاد الفريق الابيض ان الفريق الاسود لن يصمد طويلا , ولكنه سرعان ما استيقظ من المفاجأه وعاد إلى المنافسه مما جعل الملك الابيض في موقف حرج, فأمر العسكري الجديد بالتقدم , حتى وصل العسكري الجديد إلى نهاية خط العدو بعد ان مهد له الملك الطريق , فقام بترقيته وزيرا لجيشه آمرا الوزير القديم بخلع حلته واهدائها إلى الوزير الجديد, رغم رفض الوزير القديم لذلك خوفا منه لان يعود مجرد عسكري مرة أخرى , ولكنه استسلم بعد ان هدده الملك بالنفي, فأعطى حلته للعسكري قائلا له بغضب, لن تمر هذه الحادثه بسلام.يصفق الجميع ويهللون بما فيهم أعضاء الفريق الأسود للوزير الجديد, والذي استطاع ببعض خطوات مع مساعده الطايبة اليمنى أن يحاصروا الملك الأسود , ليعلن استسلامه وانتصار الفريق الابيض وسط ذهول الوزير السابق.
(12)
انتهت المباراه , وقام الملك بعمل حفل كبير كرم فيه كل من ضحوا في المعركة الأخيرة بما فيهم الوزير السابق, وفي النهاية قاموا بعمل حفل تأبين للعسكري المكسور, وقد أدرك الوزير السابق أهمية أن يقنع بما فيه خاصة بعد أن هددته الطابيه اليمنى أن تفضح أمره للفيل الأبله والذي سيفضحه امام الجميع, حيث أن واقعه قتل العسكري حدثت امام عينيها , قائلة له, انني لم أبلغ عنك إلا لأنني بالفعل خفت من الفتنة, ولكن ان فعلت اي شيء آخر فانت الآن تحت رحمتي , ولا تلومنني ان نفذ صبري.أما الوزير الجديد فلم يكتفي بحفظ خطط الجد , ولكنه كذلك ظل يبتكر في الخطط الجديده , بل وفتح أبواب الحوار مع الوزير الاسود حتى يتناقشوا بعد كل مباراه عن اسباب هزيمه أو انتصار احدهما مع باقي القطع, فلم تعد المباريات مملة ولم يعد للروتين مكان في وسط هذا اللوح الصغير من الشطرنج.ومنذ تلك اللحظة , تبدأ كل المنافسات المسائية بين الفريقين بالهتافات العالية من الجانبين, فتقلق أحمد , ولكنه سرعان ما يعود للنوم ظنا منه انها مجرد تهيئات.
الخميس، 12 مارس 2009

عروسة المولد


كان يا مكان في قديم الزمان, شاب وسيم يعمل في صناعة حلوى المولد, وكان يطوف في البلاد حتى يبيع ما يصنعه من الحلوى على الأطفال في موالد أولياء الله الصالحين, حيث اعتاد الأطفال انتظاره من العام إلى العام بفارغ الصبر, ليشتروا من " عم وليد " حلوى عروس المولد التي اشتهر بانه أفضل صانع لها على الاطلاق, وفي احدى ليالي المولد الصاخبه, جاءته تلك الفتاة التي أسرت قلبه منذ ان تحولت من طفلة بسيطة لا تطيق انتظار دورها من أجل الحلوى, إلى فتاة ناضجة طاغية الأنوثة , و استطاعت بعينيها الزرقاء أن تسرق روحه وكيانه,ومنذ تلك النظرة وهو يتلهف من العام إلى العام هذه اللحظات القليلة التي يراها فيها وهي تشتري منه تلك الحلوى, وفي كل عام يراها يقول في نفسه:

-مالها لا تكتفي من الحلوى, أم أنها تشتهي كوي روحي وعصر قلبي.

وفي أخر مرة , اتخذ قرارا بأن أول ما سيفعله في المرة المقبلة هو أن يسأل عنها ويتقدم لخطبتها.

وتمر عليه الأيام هذا العام وكله أمل ورغبة في الحياة, منتظرا ذلك اليوم الموعود, حتى أنه من شوقه إلى ذالك يوم فوجئ انه وصل مبكرا يوما إلى تلك المدينه عن ميعاده السنوي, فطال عليه الليل, وكان النهار أكثر طولا, إلى أن اتى وقت المولد, ولكنها لم تأتي هذه المرة, ظل ينتظر وينتظر, وهو يرفض ان يغلق عربته ويذهب إلى النوم رغم نصح اقرانه له بسبب شدة البرد, ولكنه ظل متعلقا على أمل أن يراها , فهي لم تخلف هذا الميعاد أبدا.في اليوم التالي, رفض وليد أن يكمل رحلته في البلاد وقرر ان ينتظر حتى يعلم ما حدث لمحبوبته, فظل يسأل ويسأل, إلى أن دله أحد الصبيان عليها, فقال له:

إن منى أكبر اطفال المنطقه, فمهما كبرت ستظل طفلة في اعيننا وأعين القرية كلها, كانت تبعث بالبهجة والسرور في أركان البلد, بابتسامتها النقية وحركتها التي لا تهدأ مع الاطفال.

فرد وليد متسائلا:كانت؟؟؟؟

فقال الصبي:

-نعم, فهي بنت أحد أعيان البلد, لم يرغب يوما في تصرفاتها التي ظل يمقتها يوما بعد يوم,حيث كانت على خلاف سلو البد, إلى أن فرض عليها سجنا أبديا, فما كان لها إلا الهرب, ومنذ أن هربت والوالد لم يخرج من بيته, نادما على ماحدث, وقد عرض على من يجدها كل ما يطلب, ولكن لم تأته اية اخبار إلى الآن, فلا احد يعرف شكلها إلا أهل البلد.

سكت وليد وسكن الحزن داخل قلبه, ولم يزره النوم طيلة اسبوع أو يزيد, لم يدر كم من الوقت فات, ولكنه يعلم ان هذا الوقت لم يذهب هدرا, فقد وجد الطريق التي سيعيد بها حبيبته منى, مهما كلفه الأمر, وكان أول ما فعله في الصباح الباكر هو البدء في مشروعه الكبير, الذي سيعيد منى إلى والدها وبلدتها ولعلها تكون له, قام بتأجير مكان مغلق, وكان كل يوم يخرج ليشتري كميات كبيرة من السكر, ولا يسمح لأحد بدخول هذا المكان المغلق, إلى أن قارب عمله من الانتهاء, حتى بدء ينشر بأنه يصنع عروسة مولد لم يصنع أكبر منها من قبل, وسرعان ما تناقل الناس الأخبار, عبر البلاد, ولعل شهرة عم وليد ساعدت في اقتناع الكثير بجدية الموضوع.

وجاء يوم الكشف عن العمل الفني لعم وليد, وحين أسدل الستار عن العروسه في وسط حشود الجماهير, عم الصمت والذهول على أهل البلده, فقد كانت العروس طبق الأصل من طفلتهم منى , تكاد تكون هي, ولكنها مرتدية فستانا مكتوب عليه " عودي فأنا انتظرك ", فكانت هذه العروس الاكبر والاجمل على الطلاق, وكما توقع وليد, فقد جاء الكثير من الرسامين والمصورين لتصوير هذا الحدث الهام, وتم نشره في كل الصحف, وتداول أخباره بين الناس.

وظل وليد منتظرا في البلده إلى أن سمع صوت الزغاريد والاحتفالات, فقد عادت منى , فرقص قلبه طربا , وعقله راح في سكر عميق, ولكنه خاف الذهاب إلى محبوبته ليتقدم لخطبتها, خوفا من الرفض, فهو مجرد صانع حلوة, وهي بنت أكبر أعيان البلد, وحين كان يهم في الرحيل مكسور القلب, جاءته رسالة من والد منى بأنه يرغب في مقابلته عن طريق مجموعه من الأطفال, تردد كثيرا, ولكن ليس هناك ما يخسره.ذهب وليد إلي منزل منى, ليجد والدها يستقبله بالترحاب, وجلس معه فقال له:-

من الصعب ان يتذكر المرء الوجوه،فكيف استطعت ان تنحت وجهها بهذه الدقه؟

سكت كلاهما واكمل الاب :

-اعلم ان هذا لا ينبع الا عن حب صافي نقي، لذا ارجو ان تقبل ان تكون زوجا لها.

نظر وليد إلى الأرض وقال:

- ولكنك تعرف ما عملي وانا لا اناسب.....

قاطعه صوت رقيق عذب:

- انني لم أهرب إلا لأجد السلام مع عرائس الحلوى التي تصنعها, فما بالك بعدما صرت أنا احد تلك العرائس, فمن الافضل ان تأتي إلي قبل أن يلتهمني أحد غيرك.
الحمد لله, اخيرا استطعت أن ارمي كل همومي, لا ادري أين رميتها, هل هي لحظة ركوبي القطار, ام عندما كان لقائي بأحبائي واصدقائي الذين لم أراهم منذ فترة طويله, أم ربما عندما ذهبت إلى البحر ونظرت إليه نظرة العتاب تلك, لا ادري, ولكن كل ما يهمني انني رميت بكل همومي, وارجو الله أن لا تعود إلي أبدا.
فعلا كانت رحلة من أجمل ما يكون, وذلك بفضل أصدقائي وأحبائي, محمد جمال صديق عمري وحبيب قلبي, محمود مهدي صاحب أكبر دماغ, وهيثم صاحب الخد الأحمر والضحكة اللي تريح اي قلب, وهاني صابر صاحب الفيهات اللي كانت بتموتني من الضحك, وأكيد عبد القادر, اللي من غيره عمري ما كنت عرفت أعيش في سوهاج, أشكركم من كل قلبي.