الأربعاء، 27 يناير 2010

عم عبده ذو الجلباب الاسود


(1)
" يا فتاح يا عليم .. يا رزاق يا كريم... يا رب ارزقني بالحلال ... وعوضني بالرضا بده الحال "

بهذا الدعاء البسيط كان يبدأ عم عبد العظيم يومه في الصباح الباكر , ثم يستعد ليوم طويل من العمل المرهق , فيرتدي أحد جلابيبه السوداء الثلاثة , هذا اللون الذي يشبه حياته التي مرت عليه يوما بعد يوم بقسوة شديدة , وعلى الرغم من ذلك فهو لا يكتفي من لبس الأسود, ليس حبا في ذلك اللون المقيت , ولكن لأنه اللون الوحيد الذي يستطيع تحمل اليوم بمشاكله مع عم عبد العظيم .

وبعد أن يصلي ركعتي الصبح يخرج إلى الشارع ليفك السلاسل عن عربة الخضراوات الخشبية التي يعمل عليها, ويجرها بنفسه إلى السوق حيث يستلم نصيبه من البضاعة ويقوم برصها على العربة استعدادا لبيعها.

وبعد أن ينتهي من ذلك , يخرج " عم عبده " من جيبه علبة من السجائر البوكس , ويبدأ في إشعال أول سيجارة في يومه الطويل , وعلى الرغم من انه يقول " في الصبح بتكون رجل الزبون خفيفة قوي " على حد تعبيره , ولكنه كان يعشق تأمل الناس وهم يركضون كالنحل في الصباح الباكر , فهذا الموظف يركض وراء رزقه , وتلك الطفلة بمريولها الأزرق الصغير تتسابق مع زميلاتها إلى المدرسة بطريقة طفولية مرحة , وتلك المجموعة تتزاحم على مطعم عم حمدي ليحصلوا على ما لذ و طاب من نصيبهم في الفول والطعمية, وهذا وذاك وتلك ... يراقب الجميع بلا ملل أو كلل .

ومع كل مشهد من تلك المشاهد ينفث دخان السيجارة من صدره الذي احترق طوال ثلاثين عاما من التدخين, ويتذكر في كل موقف يراه تلك المشاهد المأساوية من حياته, والتي حولته مجتمعه معا إلى عم عبده بائع الخضراوات ذو الجلباب الأسود.

(2)

كان طفلا بريئا لم يتعد العاشرة بعد, يرتاد احد المدارس الحكومية ولما ما كان عليه من تفوق باهر على الرغم من ظروف والده المادية , وارتياده أسوأ منظمة تعليمية في البلاد , فقد أثار حقد أقرانه من الأطفال المقاربين له في السن , فكم من مرة قام الآباء بتوبيخهم بجمل مثل " اتلهي على خيبتك , ده ابن البواب في مدرسة حكومي واشطر منك كمان " !!

ولذلك لم يتوقع "عم شاكر" البواب لابنه إلا أن يكون طبيبا أو مهندسا مثل أولئك الذين يسكنون في العمارة ويشاهدهم كل يوم في أزهى الملابس وهم يركبون أحدث الموديلات من السيارات , وأولادهم يرتادون أرقى مدارس اللغات في المنطقة , فكلما قدم خدمة لأحدهم قال في سره " امتى اشوفك يا ابني زيهم كده ؟" .

وفي أحد الأيام عاد الابن إلى المنزل مسرعا وفي يده نتيجة أحد الامتحانات والتي تفوق فيها كعادته , ولكم كان يطوق ليخبر والده الذي كان يسعد دوما بهذه النتائج ليكافئه ببعض من القروش عليها , وما أن اقترب من المنزل حتى سمع نواح أمه عاليا من أول الشارع , فأخذ يركض سريعا حتى وصل إلى باب غرفتهم في الدور الأرضي لتجحظ عيناه أمام منظر أبيه الراقد على الفراش في سكون تام . وتسقط من يده ورقة النتيجة على الأرض ليدوس عليها ذلك الطبيب الذي أعلن وفاة عم شاكر لتوه !

(3)

- " ازيك يا دكتور عادل , إن شاء الله تكون بخير ؟ "
- " الحمد لله يا عم عبده .. اوزنلنا اتنين كيلوا خيار حلوين وحياتك "
- " أنت بس تؤمر يا باشا ! "
- " ايه أخبار رواية بهاء طاهر اللي اديتهالك ... خلصتها ولا لسه ؟ "
- " خلصت نصها يا دكتور... دي رواية واقعية وحزينة قوي "
-" أنا أول مرة أشوف بياع خضار مثقف زيك يا عم عبده , عموما خلصها وأنا هاديك تاني , إلا صحيح إيه آخر أخبار محمد ؟"
-" ايه!, علمي علمك يا بيه ... اتفضل الاتنين كيلو اللي طلبتهم " ...


هكذا كان عبد العظيم أو عم عبده كما كانوا يدعونه معروفا للجميع بابتسامته الراضية , وبشاشة وجهه وثقافة ليس لها مثيل عند أقرانه , ولأنه كان محبوبا في المنطقة التي يعيش فيها , لم يتوانى أحد في مساعدته في أي من المشاكل التي وقع فيها , والتي كان أسوأها في نظره وفاة زوجته أم محمد " المعطاءة الصابرة رحمها الله " كما كان يصفها كلما جاء ذكرها في وسط حديثه مع الآخرين , لم يتعد وقتها عمر محمد ولده الأربعة أشهر , مما جعله في حيرة ما بين تربيته والعمل ليحصل على المال الكافي لستر حالهما , فما كان من المهندس عدلي – والذي كان من أكثر المعجبين برحلة نضال عم عبده - إلا أن قال له " ابنك زي ابني يا عبده , ما تشيلش هم " , ومنذ ذلك الوقت تكفل المهندس عدلي بجميع احتياجات محمد ليراه والده كل يوم يكبر فتزداد آماله في ولده , لعله يكون السبب في تغيير الحال إلى الأفضل , إلى أن قوي وأصبح شابا ناقما على عمل والده , غير راغب في استمرار " حسنات الباش مهندس " .

وعلى الرغم من ضيق عم عبده من تصرفات ولده تجاه عطاء ذلك الرجل الكريم , كان يحاول إقناع ولده بكل هدوء محاولا إرضائه لعله يقنع بما من الله عليهما , ويبدأ في تحسين مستواه التعليمي الذي انحدر تماما في الآونة الأخيرة , ولكنه في أحد الأيام استيقظ فلم يجد محمد , ومنذ ذلك الوقت ذهب محمد وذهبت معه كل آمال عم عبده .

(4)

استمر ابن عم شاكر هائما في حزنه لعده أشهر , كانت تقوم فيهما الأم بعملها كخادمة عند أهالي العمارة بالإضافة إلى عمل زوجها الفقيد , ولكن مع الوقت خانتها صحتها لتصاب بمرض في رئتيها , فلم تستطع مواصلة العمل بنفس الجودة , ولكي تستمر الحياة , وطلبا للستر , لم يكن أمامها إلا التخلي عن أعز ما يملكان هي وولدها , لم يكن أمامها إلا التخلي عن حلم عم شاكر - رحمه الله - , فأخرجت الابن البار من مدرسته ليساعدها في العمل.

تقبل الابن الأمر الواقع برضا تام , وبل استقبل الخبر بابتسامه عريضة على الرغم من قلبه الذي كان يؤلمه في أول أسبوعين لم يذهب فيهما إلى المدرسة , ليكون ملهاة أبناء الذوات الذين استلذوا في إرساله لتلبية طلباتهم التي كان يراها تافهة إلى أقصى الحدود , ولكنه تحمل كل ذلك في سبيل اللقمة وإرضاء الوالدة التي لم تبخل على ولدها بمصروف جيد من المال كان يصرفه على الكتب والقراءة , ولم يمر الكثير من الوقت حتى مل إقرانه من اللهو به بعد إن اثبتوا تفوقهم المادي والاجتماعي , ولكنه لم يأبه لذلك , بل حمد ربه .

واستمر هذا الحال حتى استطاعت الوالدة من تزويج ولدها بابنة بواب احد العمارات التي تجاورهم , وعلى الرغم من رفض ولدها لهذا الأمر , ولكنها أقنعته بأنها إن عاشت اليوم فلن تدري ما سيحدث في الغد , وان هذه الفتاة ستعوضه عما فاته من دنياه , فسلم للأمر الواقع وتم عقد القران في حفل بسيط جدا , وكانت أول أيام حياته معها من اسعد ما عاش , فعلى الرغم من أنها كانت متوسطه الجمال , ولكنها ضمته إليها بحنانها وحبها وسعة صدرها لكل الظروف التي واجهتهم , وما إن مر العام حتى توالت المصائب فوق رأسه , فتوفت والدته وبعدها بشهر واحد قرر اتحاد ملاك العمارة بتعيين بواب جديد , فما كان منه إلى أن انتقل إلى احد الأحياء الشعبية باحثا عن حياة جديدة ومصدر رزق يستره هو وزوجته .

(5)

يستمر عم عبده في التدخين تحت أشعة الشمس الحارقة , مراقبا أولئك السيارة بكل تمعن , ذلك الموظف العائد بعد يوم مرهق , وتلك الفتاة التي تسير مع خطيبها المهندس , وتلك الأسرة القادمة في السيارة , ويستعيد الذكريات , ليلعن كل الظروف التي فصلت بينه وبين أهدافه التي كاد أن يلمسها بيديه لولا ظهورها في غير أوانها , وفجأة يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ليقول لنفسه " هتكفر بنعمه الله يا عبد العظيم ولا ايه , الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.. الحمد لله على كل حال " !
ثم استيقظ من سهوته على صوت محضر شرطه , تعجب في بادئ الأمر , فإنه لم يفعل ما يغضب الحكومة طوال حياته .
- " خير يا باشا في حاجة ؟ "
- "حضرتك مطلوب في القسم عشان تتعرف على جثة المدعو - محمد عبد العظيم شاكر "!!

4 عبر مين قدك !!:

غير معرف يقول...

ما شاء الله ... ايه الإبداع ده ؟ .. اسلوب راقي و متميز ما شاء الله

اول مره ازور المدونه بس ان شاء الله نتابع دايما مع حضرتك

كل المدونين بقو بيكتبو باحترافيه و انا اللي وقعت من قعر الأفه يعني ؟

ههههههههه

يا ريت اتشرف بحضرتك في مدونتي المتواضعه

http://ra7alaat.blogspot.com/

شكرا لوقتك

كلمات من نور يقول...

ايه القصص ال
open end

دي بتخلي الواحد يقعد يقول : يا ترى البواب الصغير وقف على رجله وبدأ يكمل دراسته والا كمل مسيرة حياته بواب؟؟ويا ترى بائع الخضار ردة فعله إيه ؟؟؟طبعا المتفائل حيفكر بتفاؤل ويقول أكيد كمل تعليمه واتغير حاله ...واللي عايش في مصر حيقول : عليه العوض في الشاب حيفضل طول عمره بواب .....تسلم إيدك يا شيكو

كلمات من نور يقول...

أسفه يا أبو ضياء ..تسلم إيدك

أبــــو ضـــيــاء يقول...

الولد اللي مات اسمه محمد عبد العظيم شاكر

والبواب كان اسمه شاكر
وبالتالي يبقى عبد العظيم هو ابن البواب

محمد حفيد البواب

ده بس للتوضيح

وشكرا عالردود