الأربعاء، 11 فبراير 2009

سندس وحديقة الأمل

انتقلت تلك الفتاه البريئه الي منطقه جديده حيث كان كل شيء مختلف، كان الشجر ينمو الى اسفل والنور يمدك بالكآبه والموسيقى لا تعزف الا في الجنائز، مجتمع غريب، ممنوع فيه اللعب، وليس فيه وقت للرقص، شوارع ممتلئه بالأحياء الأموات، عندما تنظر الى وجوههم ،تعلم ان تلك الابتسامه الطفوليه البريئه لم تسلك يوما طريقا الى قلوبهم، وان نظرت في عيونهم تجد نارا مشتعله من الحقد والحسد، والرغبه القاتله في انتزاع كل ما هو جميل في حياتك، ولكن ذلك لم يكن غريبا على سندس، حيث انها سمعت عن اخبارهم الكثير، وقد اتخذت وعدا على نفسها انها لن تكون يوما منهم، ولن تجعل من نفسها يوما ضحيه لأولئك الوحوش.

وجاء أول يوم لها في المدرسه، وتعرفت الى زملائها وزميلاتها من التعساء، وتعرفت على مجموعه من المدرسين لا يفقهون شيئا سوى إجبار الطلبة لتعلم ما لا ينفع ولا يضر، ولكن ذلك الأمر لم يحبط عزيمتها لتكمله الطريق والبقاء في مقدمه المتفوقين ، كما تعودت في مسيرتها الدراسيه، وما ان دق جرس الفسحه ، حتى انطلقت بكل حماس ولهفه، تبحث عن عن وقود روحها ، عن وسيلتها للوصول الى بر الآمان، عن اصدقائها الذين كانوا يصغون لأحاديثها الطويله دون أن يكلوا أو يملوا، ذهبت تركض في كل أنحاء المدرسه تبحث في كل ركن وكل ساحه،وبعد ان امتلك الجهد جسدها وقفت والدمع في عينيها, بعد ان ايقنت انه لا وجود لحديقه للمدرسه، لا أزهار ولا ورود ولا أصدقاء، وما أن مسحت دمعتها حتي لمحت عيناها قطعه خشبيه قديمه، تدوس عليها قدمها الصغيره، وبعد ان ابعدت عنها الغبار، ظهرت على وجهها بسمه غمرت الدنيا بالسعاده، فقد قرأت كلمة "حديقه المدرسه" على تلك القطعه الخشبيه، وهمست لنفسها بصوت خفيض، سوف تبدأ الحياة من هنا، ولكنها لم تعلم ان تلك الهمسه سوف تسمعها كل الدنيا في يوم من الأيام.

وعادت سندس في اليوم التالي وحقيبتها ممتلئه بالأمل والرغبه ومعبئه ببذور البهجه والسرور، وكان جرس الفسحه لها بمثابه الخروج من السجن الى الحريه، فكانت تنطلق لتعيد زراعه تلك الحديقه بكل لهفه وشوق، ومع مرور الأيام بدأ الأطفال الآخرون يراقبونها ، ويتمنون ان يساعدوها, وكلما كلمتهم قالوا لها انها مضيعه للوقت والجهد, لم تفهم وقتها لما يقول اولئك الطلاب ذلك ،لكنها سرعان ما اقنعتهم بما سيعود عليهم من ذلك النشاط بالمنفعه العلميه والترفيهيه، والرائحه الطيبه التي ستعم المدرسه، والبهجه التي ستدخلها تلك الألوان الزاهيه داخل القلوب، وبالانتهاء من زراعه الحديقه، انتهت السنه الدراسيه، وأصبحت تلك الحديقه حديث المدينه, وكان على عم رفعت مسئول الحديقه الاستمرار في رعايه تلك اللوحه الفنيه الرائعه.

وذهبت سندس وأصدقائها للاستمتاع بالعطله، بعد ان تسلل أخيرا في قلوبهم الصغيره الشعور بالنجاح، وعاد اليهم الأمل في الحياه، وعلى الرغم من سعادتهم بالابتعاد عن تلك المدرسه البغيضه، ألا انهم كانوا دوما يفتقدون حديقتهم ، ويتمنون العوده لتلك الأحاديث الطويله مع ازهارهم, وان يتنشقوا رحيق الحريه والأمل من جديد.

وبدأت السنه الدراسيه الجديده، وكما اعتاد الطلبه، تعرفوا على المدرسين الجدد، والذين لم يختلفوا عن سابقيهم كثيرا، وما ان دق جرس الفسحه، حتى انطلقت سندس الى جنتها، ولكن لم تكن لوحدها هذه المره ، وما أن وصلوا الطلبه الى الحديقه حتى صعقوا بما رأوا، وتمنوا أنهم كانوا عميانا حتى لا يروا ذلك المشهد، فتلك الجنه اصبحت مقبره، صحراء جرداء ليس فيها حياه، وعلمت سندس حينها قصد زملائها بمضيعه الجهد والوقت ، وبدأ يتسلل الاحباط الى عقول الأطفال وخاصه سندس ،وخرج من وسط سوداويه المشهد" نور "، ذلك الطفل الذي وقف وسط الحديقه المهدومه، قائلا بأعلى صوت له:

لا، لن ننسحب الآن ،لن ننسحب بعد ان تعلمنا معاني البهجه والامل والنجاح، لن نسمح بالاحباط يعود الينا من جديد، لن نتحول الى أولئك الأحياء الأموات، لا...... ، لن نكون مثلهم، سوف نعود وبقوه، وسوف نبني ما هدم، وسوف نعيد لنا ولغيرنا بهجه الحياه.

وما ان انهى نور كلامه، حتى شعر باقي الأطفال بطاقه ليس لها مثيل ، وفي اليوم التالي بدأ الاطفال في مشروعهم من جديد، يوما بعد يوم حتى جاء وقت العطله الأسبوعيه,ثم عاد الأطفال ليكملوا عملهم بلهفة ، فوجدوا ان حديقتهم قد صارت خرابه من جديد، وكأنهم لم يفعلوا شيئا طوال تلك الأيام، وعلم نور بفضل صداقاته بأن عم رفعت يترك تلك الحديقه لبعض من ابناء اصدقائه ليقضوا فيها العطله مجاملة لهم، فهرع نور الى سندس، فأخبرها بما حدث ، وقاموا بتجميع الاطفال وذهبوا جميعا ليشكوا أمرهم عند الاستاذ "بهيج" ناظر المدرسه, والذي تولى منصبه حديثا, معروف بنزاهته, فكان أملهم الوحيد , وأخبرهم بأنه سينظر في الأمر.

ولكن عم رفعت كان يعلم أن ذلك سيحدث في أحد الأيام, فجاء للأستاذ بهيج بصور للحديقه بالعام الفائت , وكيف انها كانت جنه بفضله, وأن ما حدث في الحديقه هو من فعل أولئك الأطفال, خاصه بأنه يمتلك لهم صورا وهم يقضون معظم وقتهم ينبشون في أرض الحديقه, بل وجاء بشهود من بعض أولاد أصدقائه ليشهدوا معه, لأنهم تعبوا كثيرا في زراعه تلك الحديقه مع عم رفعت!

فأقتنع الاستاذ بهيج بأن سندس هي السبب , فطلب حضورها, وشرح لها الموقف,ووجه إليها التهم, فشعرت سندس بالظلم الشديد والاحباط, خاصة أنها لا تملك ما يثبت عكس ذلك, مع ادانتها بأنها هي محدثه المشكله, بل وأن الأطفال الآخرين كانوا لا يعبثون بشيء وهي من حرضتهم على ذلك, ولكن لان الاطفال كانوا يعلمون حقيقه الموقف, ويعلمون أن هذه الأشياء ماهي إلا لعبة في يد الكبار, لا يمكنهم الاشتراك فيها إلا تحت أوامرهم, فهونوا على سندس الأمر, وطالبوها بالابتعاد عن الحديقه ومشاكلها, فليس هناك فائده من مضيعه أيام وشهور من الجهد, لتأتي العواصف لتهدمه في لحظات.

وكانت تلك الكلمات بالنسبه لسندس كالضربه التي قسمت ظهر البعير, فما أن سمعتها, حتى استقلت أول حافله متجهه إلى مدينه الظلام والاحباط, تاركة كل أحلامها وأهدافها وراء ظهرها في مدينة الأمل, والتي أصبحت بالنسبه لها مدينه لا تتواجد إلا في عالم المستحيل.

0 عبر مين قدك !!: